تعتبر فلورانس نايتنجال التي ولدت عام 1820 في مدينة فلورنسا بإيطاليا رائدة التمريض الحديث، وإليها يُنسب الفضل في تنظيم قواعد هذه المهنة ووضع أُسسها ورفع مستواها.
عُرفت (فلورانس) باسم «سيدة المصباح» أو «السيدة حاملة المصباح»، لأنها كانت تخرج في ظلام الليل إلى ميادين القتال وهي تحمل مصباحاً بيدها للبحث عن الجرحى والمصابين لإسعافهم. وكانت (فلورانس) أول امرأة تُمنح «وسام الاستحقاق»، ولقد كتَبَ إليها إمبراطور ألمانيا مهنئاً مفتخراً بها، وسمّاها في رسالته بملكة الممرضات، وخلّد ذكراها الشاعر الإيطالي (لو نجلغو) بقصيدته (سيدة السراج).
الآسِيات العربيات المسلمات
إن هذا العمل الإنساني الكبير، وإن كان يبدو للناس أنه من أعمال النهضة الحديثة، لكنه بدأ منذ زمن بعيد عند العرب حيث كانوا يُطلقون على الممرضات اسم «الآسيات» و«الأواسي» لأن عنايتهن طالت الناحية النفسية والوجدانية، كما الجسدية، للمريض. ولمّا جاء الإسلام أقرّ هذا العمل ورعاه وشجّعه، وطُبِّقَ عملياً، فلقد تواترت أنباء كثيرة عن اشتراك أمهات المؤمنين وأمهات ونساء الصحابة وبناتهم رضي الله عنهن أجمعين في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلموسراياه، وكانت مهماتهن تتراوح بين التمريض، والإسعاف المباشر في ساحة القتال وسط الخيل والمبارزة وإطلاق السهام والنِّبال، ونقل أصحاب الجروح الكبيرة إلى الخطوط الخلفية في الخيم من أجل مداواتهم ونزع السهام، وما يتبع ذلك من تضميد للجروح ووقف النزيف وأحياناً البتر والكَي، بالإضافة إلى حمل قِرَب المياه لسقاية الجرحى وحراستهم وإعداد الأطعمة. وكانت في طليعة الممرضات والطبيبات رُفَيْدَةُ بنت سعد الأنصارية رضي الله عنها، صاحبة الخيمة الطبية الأولى في التاريخ.
الطبيبة رُفيدة
تُعَدّ رُفيدة الأسلمية، من كريمات النساء، وفضليات الصحابيات المجاهدات، بايعت الرسول صلى الله عليه وسلمبعد الهجرة، واشتركت في غزوتَيْ الخندق وخَيْبر، وكانت رضي اللهعنها قارئة، كاتبة، وصاحبة ثروة واسعة. قد استهوتها حِرْفة التمريض، ومهنة التطبيبوالمداواة، وتفوّقت في ذلك حتى اشتهر عنها، وعُرفت بين الناس قاطبة. وكان يُطلق عليها (الفدائية) لأنها كانت تدخل أرض المعركة تحمل الجرحى وتُسعف المصابين وتُشجِّع المجاهدين.
رُفيدة في خيمة الخير
ظهرت خيمة رفيدة على مسرح الأحداث بَدْءً من يوم أُحُد، عندما كانت تستضيف الجرحى، تضمِّد جراحاتهم، وتُسعفهم، وتسهر على راحتهم، وتواسيهم. وكانت رضي الله عنها تخرج في الغزوات، وتنقل معها خيمتها بكل متطلباتها وأدواتها واحتياجاتها فوق ظهور الجِمال، ثم تُقيمها بإزاء معسكر المسلمين، تشاركها العمل الصحابيات رضوان الله عليهن؛ لذا تعتبر خيمة رفيدة الأسلمية على الرغم من بدائيتها أول مستشفى ميداني.
طبيبة سعد بن معاذ
روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق بسهم أطلقه أبو أسامة الجشمي حليف «بني مخزوم»، فأمر الرسولصلى الله عليه وسلم رفيدة أن تقيم خيمة في المسجد ليعوده من قريب. كانت تُداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضبعة (جرح أو مرض) من المسلمين. ولقد ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة» كيف أنّ رفيدة الأسلمية عندما رأت انغراس السهم في صدر سعد تصرفت بحكمة ووعي فأسرعت بإيقاف النزيف، ولكنها أبقت السهم في صدره لأنها كانت تعلم أنها إذا سحبته أو أخرجته سيُحدث نزيفاً لا يتوقف من مكان الإصابة.
مستشفى رُفيدة
كما تواتر أنه أقيم لها خيمة خاصة وبارزة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كمستشفى لعلاج المرضى والمصابين بجروح، وكوّنت فريقاً من الممرضات حيث قسمتهن إلى مجموعات لرعاية المرضى ليلاً ونهاراً. ولم يكن عمل رفيدة مقتصراً على الحروب فقط، بل عَمِلت أيضاً في وقت السِّلم تُعاون وتُواسي كل محتاج؛ وكانت أول سيدة تعمل في نظام أشبه ما يكون بنظام المستشفيات في وقتنا. أما كونها أول ممرضة في الإسلام فليس في ذلك خلاف، فقد ذاع صيتها بين معاصريها في فن الجراحة، لهذا السبب اختارها الرسول صلى الله عليه وسلملعلاج سعد بن معاذ رضي الله عنه. أما الأعجب من عمل رفيدة رضي الله عنها فهو إنفاقها على عملها هذا من حُرِّ مالها، وخالص ثروتها، متطوعة بالجهد والمال في سبيل الله.
تكريم رُفيدة وزميلاتها
وتقديراً من النبي صلى الله عليه وسلم، كان يُعطي رفيدة حصة مقاتل، كما أعطى المتفوِّقات منهن (قلادة شرف) تقديراً للجهود التي بَذَلْنَها، فعن أميمة بنت قيس الغِفَارية قالت: جئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غِفَار، فقلنا: يا رسول الله إنا نريد أن نخرج معك إلى خيبر، فنداوي الجرحى ونُعين المسلمين بما استطعنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على بركة الله». قالت أميمة: فخرجنا معه صلى الله عليه وسلموكنتُ جارية حديثاً سني، فلما فتح الله لنا خيبر قسَّم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلممن الفَيْء، وأخذ القِلاَدة - التي ترَيْن في عُنُقي - فأعطانيها وعلّقها بيده في عُنقي، فوَالله لا تفارقني أبداً. فكانت في عُنُقها حتى ماتت، وأوصت أن تدفنَ معها رضي الله عنها.
رُفيدة في الشعر العربي
ولقد أبرز الشاعر المصري المعاصر «أحمد محرم» صاحب «الإلياذة الإسلامية» صورة فذة للصحابية الجليلة «رفيدة الأسلمية» في شعره؛ فقال:
«رفيدة» علِّمي الناس الحنانا
وزيدي قومَك العالين شانا
حباك الله من تقواه قلباً
وسوّى من مَراحمه البنـانا
خذي الجرحى إليك فأكرميهم
وطوفي حولهم آنـاً فآنـا
وإنْ هَجَعَ النِّيامُ فلا تنامي
عن الصوت المردِّد حيث كانا
أَعيني الساهرين على كُلُومٍ
تؤرقهم فمثلك مَن أعـانـا
ضيوفُ الله عندك في محلٍّ
تذكِّرنا محاسنه الجِـنـانـا
«رفيدة» جاهدي ودَعي الهُوَيْنا
فما شرفُ الحياة لمن توانى
... فأين خيمتك؟
إذا ما أمعنّا النظر في السيرة النبوية العَطِرة وكتب المغازي وتاريخ الجهاد فسنلمح اسم الصحابية الجليلة رُفيدة رضي الله عنها يمر مروراً عابراً، فمع ضآلة المعلومات التي وردتنا عن سيرتها، إلا أنّ الدور الذي لعبته لم يكن هامشياً؛ فلقد أكّدت من خلال عملها في مهنة الطبابة والتمريض أنّ للمرأة دوراً في المجتمع الإسلامي لا يمكن إنكاره أو تجاهله، لا سيما في أوقات الأزمات، كما تُعتبر أنموذجاً شامخاً في الإيجابية والتحرك من أجل العمل للدين، كما نلمح آثار التربية على الحس الجهادي واضحاً في سيرتها وشخصيتها.
فبخيمة متواضعة بجوار مسجد الحبيب صلى الله عليه وسلمأو في ساحات المعارك، صارت «رفيدة» عَلَماً زاهراً ومساحة مضيئة في صفحات تاريخنا الإسلامي.
تُرى.. متى ستنصب المرأة المسلمة في القرن الحادي والعشرين خيمتها على ثَغر من ثغور الإسلام... خيمة تتناسب مع خصائصها ورسالتها وطاقتها ومواهبها وقُدُراتها العاطفية والجسدية تدافع من خلالها عن الإسلام وتذب عنه؟ خيمة ترفع على قبتها رايات العقيدة السمحاء؟